محمد ناصف

فلسفة اختيار الموقع الأنسب قديما وحديثا

فلسفة اختيار الموقع الأنسب قديما وحديثا

د. محمد ناصف

[email protected]

أبو بكر الرازي عالم وطبيب من علماء العصر الذهبي للعلوم أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق بشهادة المستشرقة الألمانية سيغريد هونكة في كتابها المنشور عام 1993م بعنوان “شمس العرب تسطع على الغرب”. عُرف أبو بكر الرازي بالذكاء والفطنة، فهناك قصة معروفة عندما طلب الخليفة العباسي من أبو بكر الرازي بناء مستشفى في مكان مناسب في بغداد.

لم يكن هناك أية تقنيات مكانية لاختيار الموقع الأمثل في ذاك الوقت فقام أبو بكر الرازي بوضع عدد من قطع اللحم الطازج على أعمدة خشبية ووزعها في عدة مواقع ببغداد، وكان يمر عليها بشكل يومي ليرى أي القطع ستفسد أولًا؟ وكانت القطعة الأخيرة التي فسدت هي أنسب الأماكن لبناء مستشفى، وذلك لوجود الهواء النقي والبعد عن البكتريا والأتربة وهذا ما يحتاجه المريض للإستشفاء هواء نقي غير ملوث وبيئة نظيفة تقل فيها البكتريا والأتربة، كانت هذه منهجية اختيار أنسب المواقع في زمن أبو بكر الرازي في الفترة (864 م – 923م)، وحري بنا أن نتذكر منهجية أبو بكر الرازي بدلا من التعظيم المبالغ في خرائط جون سنو لتحديد موطن مرض الكوليرا بلندن.

ففي عام 1850م كان هناك تحديا جديدا لتحديد موطن مرض الكوليرا الذي اصاب منطقة سوهو بلندن ولولا جون سنو لانتشر الى لندن كلها. والحقيقة أن الطبيب جون سنو قام عام 1854م بتقليد عمل الصحفيين في ذلك الوقت من خلال تتبع الحالات وتوقيعها على خريطة منطقة سوهو بلندن، وقادته إحدى الحالات وهي امرأة في التاسعة والخمسين من عمرها كانت تسكن في غرب لندن وتوفيت، وعند سؤال ابنها أجاب أنها كانت تحب الشرب من مضخة المياه في شارع Broad – اسمه الآن Broadwick – وكانت السيدة تذهب للشارع لملء زجاجة مياه كبيرة من المضخة يوميا. وفي يوم 31 أغسطس 1854م شربت السيدة يوم الخميس من المياه ومرضت يوم الجمعة وتوفيت يوم السبت. وبذلك كانت نتيجة تحليل الحالات على خرائط جون سنو أن الحالات تتجمع حول مضخة المياه بشارع برود وبإبلاغ متخذي القرار تم فحص مضخة المياه وبالفعل وجدوا أن مياه المضخة ملوثة بمياه الصرف الصحي من حفرة مجاورة كان يلقى بها فضلات حفاضات” الأطفال وبهذا تحدد موطن انتشار الكوليرا وصارت هذه الخرائط كما يعتبرها الغرب أول منهجية قامت عليها نظم المعلومات الجغرافية.

أما اليوم، ففي دقائق معدودة يستطيع أي مستخدم للتقنية اختيار أنسب المواقع باستخدام تحليل multicriteria analysis  فضلا عن النماذج الحديثة في هذا المضمار والتي تعتمد على البيانات الضخمة Big Data ، ورغم ذلك نجد الأخطاء والكوارث نتيجة سوء اختيار المواقع من قبل متخذي القرار في أوطاننا.

إن فلسفة اختيار الموقع الأنسب تقوم على توفير الوقت والجهد والتكلفة والأمان والراحة والاستفادة العظمى من المكان، ولكن للأسف في أوطاننا لدينا فلسفة أخرى تقوم على زيادة الوقت والجهد وعدم الأمان لضمان مكسب أكبر قائم على إيجاد بنود أكثر لصرف نفقات أكثر، ولعل البعض يتذكر المبدع نجيب الريحاني عند تفنيد بنود الصرف على الخروف فما كان من رئيسه إلا أن تمسك به وزاد في علاوته لفطنته في توزيع النفقات، وربما ما زلنا داخل المؤسسات الحكومية نبحث عن بنود للنفقات لإدخال هذه النفقات في جيوب القائمين على الإنفاق.

————————— –

بعض المعلومات من مقال بجريدة الجارديان البريطانية بعنوان “John Snow’s data journalism: the cholera map that changed the world ” المقال كاملا متاح عبر الرابط التالي: https://www.theguardian.com/…/…/mar/15/john-snow-cholera-mapمعلومات أخرى من كتاب “شمس العرب تسطع على الغرب” لـ سيغريد هونكة عام 1993 الكتاب متاح عبر الرابط التالي

: https://www.kutubpdfbooks.net/…/%D8%B4%D9%85%D8%B3-%D8%A7%D…

 

 

 

 

 

 

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *