ناديـــــــــــــــن
د. محمد ناصف
كنت أنظر وأراقبهم من قريب تارة، ومن بعد تارة أخرى، كنت أتسائل كيف تولد السعادة من الفقر؟، وما هي لذة السعادة في المبيت تحت الكوبري وعلى الأرصفة؟، كنت أندهش متسائلا ما طعم السعادة في طعام من نوع واحد منذ عشرات السنين؟، وما فائدة السعادة بعد شفاء أحدهم دون أن يذهب للطبيب مع أنهم موقنون بأن المرض سيداهمه مرة أخرى بعد برهة من الزمن لأن المرض أكل من جسده وشرب، ما سر التشويق في البحث في تلال القمامة هل سيجدوا فيها ذهباً؟، كانوا يستقبلون الموت بفرحة عارمة وبضحكات عالية وأتسائل مستغرباً وهل للموت فرحة؟
كنت أتأمل فيهم وأثق بأن الله قد حبانا بنعم كثيرة وأنه لا يترك مثقال ذرة إلا ويعلم حالها ويرتب لها أمورها، كنت أهمس في وجوههم من بعيد واندهش كيف يعيش هذا الجمال في كهوف الفقر المدقعة.
أخذت إجابتي كلها من ..نــاديـــن..لم أكن أعرف في بداية الأمر أنها واحدة منهم لأنها كانت ترتدي بدلة ماركة (جورجيو أرماني)، وحذاء أقرب الى سبيكة الفضة وخاتم من الماس كأنه هدية من أوناسيس اليوناني، ولكن كم تستر الملابس الفخمة من ماض ٍ يحسبه الأثرياء وصمة عار، وكم تخفي الملابس الرثة شخصيات تخلد في التاريخ.
قابلتها في إحدى اللقاءات العلمية وكانت ممثلة لجامعة ألمانية، اقتربت منها ملقيا تحية الصباح بالألمانية زاعما اتقانها وأنا بالكاد أتحسس الجمل فيها : Guten Morgen ، ملحقا بها Wie geht es ihnen? : فكان ردها : أهلا وسهلا بك اسمي نادين أروج هنا لبرنامج اللاهوت جامعة…… ؟ فسمعت صوت متطفل يدخل في الحوار – كأنه سيارة انحرفت من اليمين إلى اليسار خلسة مرتطمة بالرصيف ثم تابعت سيرها كأن شيئا لم يكن- ناطقا بالذم في هذه الجامعة وفي برنامجها. فرددت بكل تسامح كأنها تربت على يد المسيح : هل اطلعت على برنامج الجامعة؟ أستطيع أن أطلعك عليه في نسخته الجديدة لو لديك بعض الوقت. ثم وقفت تشرح لي وللمتطفل هذا ثم اعطته كتيب، وتي شيرت، وبعض الهدايا التي توزعها الجامعة للترويج لها فكان فرحا وأخذ الأشياء، ولم يلق لها بالاً. كانت نادين سخية اليد معه، لها عقل يعلم جيداً فن التعامل مع البشر لدرجة تشعرك بأن أحد أبويها يهودي متفائلة، ومبتسمة دائماً كأن العذراء تذورها في المنام كل ليلة، رغم بساطتها إلا أنك تشعر بأنها قريبة الملكة إليزابيث.. ولكني في النهاية عرفت كيف صنعت هذه الصفات؟ حينما سألتها من أين أنت فأجابت بكل سعادة: من أحد الأحياء العشوائية بالقاهرة فسألتها : هل تروجين للجامعة منذ فترة؟ فأجابت: لقد استلمت العمل منذ أسابيع بعد فترة تدريب امتدت لشهرين فوجدت نفسي أخوض في تفاصيل دون أن أشعر: سامحيني كيف؟ رددت بكل ثقة: أفهمك جيدا أنا فتاة فقيرة وهذه البذلة وما يلحقها من اكسسوارات عهدة سلمها لنا ممثل الجامعة للترويج فقط ثم تسليمها مرة أخرى. نظرت لها وهي مبتسمة ووجدت نفسي أردد هامساً: ما السعادة عندما يكون ما على جسدك ليس ملكك؟ وعلمت ليس شرطا أن تكون تعيسا حينما تكون فقيرا ، ومن لم يذق طعم الفقر لا يعرف طعماً للثراء….